بعيدا عن السياسة و مؤثرات التاريخ على البنية المجتمعية للشعب العراقي، وان اراد احد ان يتمعن في التفكير لاعادة بناء اللحمة لمكونات الشعب العراقي من خلفية مخلصة له، فلا اعتقد بانه يمكنه الخروج من المتاهة التي يصاب بها بسلام، يمكن ان يخرج بطريقين لا ثالث لهما، اما التقسيم و التوزيع، او الاحتراب المتواصل و المتعاقب بين المكونات مهما بلغ شدة المركزية في هذه الدولة المشؤمة منذ ولادتها و انبثاقها بامر خارجي مصلحي خبيث، لم يفكر صاحب المخطط الخبيث الا في المستقبل البعيد له و ليس لصاحب الشان .
لا نريد ان نطيل الامر من الناحية السياسية، فتكلمنا عنها كثيرا من قبل، فلنركز على الناحية الاجتماعية فقط و ما في العراق من القيم الخاصة العديدة المختلفة عما موجودة حتى لدى الشعوب المنطقة و الجيران ايضا . منذ انبثاق الدولة العراقية و لم يذكر اي ما كان يسمي نفسه بالعاقل غير عدم وجود شعب متكامل الاوصاف موحد في العراق، بل كان انفارا قليلة من العقلاء المقيَمين الحقيقيين لما هو عليه المجتمع العراقي اوصفوه بتكتلات منتمية الى توجهات صغيرة منضوية على بعضها غير واصلة لما يمكن ان نصفها بخصائص شعب متكامل البنية و مرتبط مع بعضه كما قاله ملك فيصل الاول و من ثم حلله العالم الاجتماعي الكبير علي الوردي باسلوبه العلمي السلس المعتمد على الحجج و البراهين الوافية التي لا يمكن رفضها علميا و عقليا .
اي، يمكن وصف هذا المجتمع بالشعوب العراقية على وجه التحديد لما يتصف به كل مكون و يتميز بخصلاته و سماته الخاصة التي يمكن ان تكون اكثريتها مختلفة تماما او بالمطلق عن ما يحمله الاخر، نذكر هذا بعيدا عن المثالية في التفكير و وفق خلفية علمية عالمة بمميزات شعب متوحد متراص ذو قيم موحدة مشتركة مع بعضها، و الذي لا يمكن احداث شرخ كبير بين كيانهم و بنيتهم، كما هو الموجود و المتجسد بين مكونات العراق .
كل ما يمكن ان نتذكره طوال تاريخ العراق منذ انبثاقه كبلد بعد انسحاب العثمانية المريض و موتها و من ثم حروب عالمية مع تغيير الواقع الذي اجبر الاستعمار على التفكير بشكل مثير من اجل الابقاء و الحفاظ على مصالحه و اللعب في هذه المنطقة على الرغم من خروجه جسديا، (وصف صديق عالم بهذا الوضع الاجتماعي فترة انسحاب الجيش الامريكي من العراق ابان حكم اوباما بفترة انجلاء الاستعمار من المنطقة و البقاء على وجوده سياسيا اقتصاديا و تخطيطه لضمان مستقبله لعشرات السنين لما بعده ) .
ان كانت القيم مختلفة بشكل كامل بين المكونات العرقية و المذهبية، ان كانت السلوك و الاخلاق على غير شاكلة و النقاط المشتركة قليلة جدا، ان كانت الارض و الجغرافيا بشكل عام و الديموغرافيا مختلفة حد النخاع، فان التوصيف العلمي الحقيقي الصحيح كما تكلم به الملك فيصل ابان حكمه للعراق ليس بغريب، و هو الاصدق من بين جميع حكام العراق الذي تعقبوا على حكمه بشكل مختلف بين فينة و اخرى و لم تفد ما اقدموا عليه على التوحيد و الاتحاد و التوافق ابدا .
لا يمكن اهمال ادوار الشخصيات الحاكمة اوالعلمية او الاجتماعية عبر التاريخ في تجسيد حال المجتمع، السلطات المتتالية التي برزت فيها شخصيات عاقلة الى جانب المغفلين، انهم ايضا لم يتمكنوا من غرز القيم التي تفرض التلائم و تبعد الانقسامات والشروخ لاسباب موضوعية و ذاتية لما هو عليه العراق كبلد او كشعب متعدد و موزائيكي و المختلف التركيب . العقلية التي فكرت بها هذه القيادات من زاوية ضيقة غير متفهمة للاختلافات الموجودة اصلا، لا بل زادتها عمقا و تشتت بها المكونات و ابتعدت عن بعضها اكثر لحد الوصول الى العداوات المجتمعية عند القاعدة ايضا، و من خلال الحروب و التعامل مع البعض او تصرف القيادات مع المكونات من زاوية واحدة و هي المركزية و فرض الراي الواحد فقط، ابعدت هذه المكونات بعد انشراخها اكثر فاكثر، مما جعلته في حال لا يمكن ان يتفائل اي منا في اعادة التلائم و اللحمة بينها بسهولة اوخلال فترة معينة .
هذا من الجانب الموضوعي و الحال النابع من سيرورات التاريخ، اما الحروب الداخلية و استمرارية المكون الواحد في الحكم طوال تاريخه بعيدا عن العدالة و الحكم الرشيد، لا بل بالعكس الحكم المؤدي الى ابعاد المكونات و زرع الاحساس لدى البعض بالاغتراب و عدم التوافق و التلائم مع الاخر جعل من التلائم و التلحيم امرا صعبا لا بل مستحيلا بعد دخول العراق في مرحلة مابعد الدكتاتورية و الواقع المزري من الثار و ما يفعله الموتورون مهما كانت تركيبتهم امام الاخر، وزاد الطين بلة بعد مجيء داعش في الوقت الذي كان العراق على ارض الواقع ثلاثة اجزاء فعلية دون اعتراف البعض لاسباب سياسية و مصلحية بحتة فقط بعيدا عن المصلحة العليا للبلد .
اليوم و نحن نعيش في العراق الذي يتحكم فيه الكثيرون بعد سقوط الدكتاتورية، و تدخلت مصالح مناطقية و عرقية و فئوية و دينية و مذهبية في الامر و لا يمر يوم الا و نرى اداة التقسيم تزداد و تتعمق الخلافات و الشرخ يزداد عمقا، فهل بالامكان ان يعيش العراق على بنية واحدة باسترضاء الجميع( لا اقصد مصلحة البعض في الكلام عن وحدة الشعب العراقي، و خاصة من قبل الجهات الخارجية قبل الداخلية التي لها المصلحة في بقاء حال العراق على هذا التخلخل و الاهتزاز من خلال فرض الترقيعات دون وضع اليد على الجرح و البدء في عملية طويلة المدى لصالح الشعب العراقي باجمعه مهما كانت الحلول، و بحجة واهية باسم وحدة الشعب و الارض العراقي ) .
كل ما في الامر، ان العراق لم يفكر و لم يمد يده للحلول الجذرية التي تهم الشعب العراقي بجميع مكوناته مهما كانت على حساب المثاليات في الادعاءات من حيث الوحدة الفكرية و الشعبية و العقيدية و الدينية و المذهبية و غير ذلك من الحجج المصلحية التي تقع جميعها على حساب حياة الشعب و حريتهم و سعادتهم . و لم يفكر احد و حتى السلطات المتعاقبة من نافذة كل شيء من اجل الشعب، فلا الوطن و لا العقيدة ولا الفكر و لا اي قيمة او هدف او شعار او منهج يساوي حياة فرد واحد او قطرة دم تسكب من اجل تلك الادعاءات اللفظية . اذا الحل لدى المكونات بذاتهم و بايديهم و ليس من حق اي مكون ان يتدخل في حقوق الاخر و ان اقتسم البلد على بعضه اوالى عشرين دولة و ترسخت و تجسدت فيها الشعوب الموحدة البنية بذاتها . لان الدولة و النظام و العقيدة و الفكر و اي شي اخر هو من اجل الانسان و معيشته و حياته و ليس لاي منهم اي قيمة اعلى من الانسان، اي الشعب بشخص الفرد و حياته و مصلحته . ان كانت الامور غير دافعة للتلاحم في فترة معينة و ان كانت الطرق لهذا الهدف غير سليمة و هناك ما يفيد المجتمع على حساب بعص الادعاءات التي سميت قيما مبالغة فيها، فانه حتى التقسيم المفيد بالشعب جميعا خير من الوحدة المضرة .
و بعد ما تغيرت الاحوال و ما بين المكونات نحو الاعقد و الابعد منذ مجيء داعش الاسود، فان تلحيم بنية الشعب العراقي اصبح من الخيال البعيدة المنال مهما ادعى المثاليين او المصلحيين الذين يتلاعبون بالالفاظ و الشعارات لمصالح خاصة بهم لا صلة لها بالمصلحة الحقيقية للشعب و حياته و سعادته و مستقبله، و مهما تدخلت الجهات الخارجية التي لا يهمها الا مصلحتها الخاصة و ان كانت على مصلحة العراق و شعبوه الكريمة التي تستحق كل خير و سعادة .